غِراسُ خَيرٍ

 ها هو رمضان يوشك على الرحيل يعلن فينا أنّ كل شيء إلى فوات ،وكل جمع إلى شتات ، وكل حي إلى موات يرحل عنّا وقد علّمنا أنّ لا قيمة للإنسان إلّا بالإيمان، ولا نجاة له إلّا  بالتقوى ،ولا فوز إلّا بالطاعة يرحل عنّا وقد ذكّرنا أنّ الإنسان يبقى ضعيفاً مهما تظاهر بالقوة ففَقدُ اللقمة والشِربة ينهكه وتضييق مجالات الشهوة قد يتعبه ،فهو فقير الحاجات فكيف يستغني عن ربه وهو فقير إليه ؟!يرحل عنّا وقد عرّفنا أنّ السعادة الحقيقية هي سعادة الروح لا سعادة البدن ،وأنّ النفس لا تَصلُح إلّا  بكبح جماحها ومنعها أهواءها ،وحبسها عن طيشها 

 إن رأيت  ابنك من الصالحين الطيبين فهذا ليس لأنّك الأب الذي ليس مثله أبٌّ،  وإن رأيت زوجتك تحبُّك وتطيعك في كل أمرٍ  فهذا ليس لأنّك سيدُ الرجال وآسر القلوب، وإن رأيتِ زوجَك يحترمُك ويقدّرك ويحسن إليك فهذا ليس لأنّكِ المرأة  التي لا مثيل لها بين النساء ،وإن رأيتَ مديرَك وزملاءك مقبلين عليك مادحين عملك فهذا ليس لأنك أنبغُ الموظفين وأجودُهم عملا

 هل تشعر بالتعب؟ هل تحس بأعباء الحياه مزدحمة متوالية تلطم رأسك ؟وتوجع قلبك وتضني نفسك ؟وتؤلم جسدك؟ هوّن عليك فهكذا هي الدنيا لا انتهاء لآلامها ولا ساحل لأوجاعها ولا انقضاء لاختباراتها وابتلاءاتها تجد نفسك حتى في ذروة أفراحك يُنهكك التعب ويبلغ منك الجهد غايه المبلغ فلا  مكسب سهل في هذه الحياة ! ولكن ربّك الكريم قد وعدك أن  تكون الجنّه آخر عهدك بالبؤس والحزن والتعب

 السعاده والهدايه قرينتان كلما زادت الهدايه زادت السعادة وبقدر حظك من الهداية يكون حظك من السعادة ولن يشقى في الآخره من اهتدى ولن يسعد في الدنيا والآخرة من ضلّ

ما أسرع مرور الأيام ومضي الأوقات بالأمس كنا نقول أهلاً رمضان واليوم نقول مهلاً رمضان ، ها هي أيام العتق تنقضي يوما بعد يوم متسارعة وها هو شهر الرحمه والغفران يوشك أن يقول وداعاً

 المنشغلون بآخرتهم المهتمون بمعادهم لا وقت لديهم للعداوات والضغينه والحقد والكراهيه وتوافه الأمور، فقد استحضروا ساعة الرحيل في نفوسهم فهي راسخة أمام أنظارهم تُعينهم دوماً على التخفف من الثارات وتُساعدهم على أن يصفحوا ويسامحوا ويعفوا ويجتنبوا الجدال والخصومات، فقد علموا واستيقنوا أنّ من أعظم المنجيات يوم الفزع الأكبر بعد التوحيد الصفحَ الجميلَ صفحٌ لا عتاب فيه ولا ملامة، بل طيب نفس وتغافل عن الإساءة

كلّنا في هذه الحياه في سفر، سفرٍ إلى الله ،نحن نسير إلى رضاه وجنته وعلينا أن نعلم أن خير زاد نتزوّد به في هذا السفر الطويل سلامة القلب فالقلوب المريضه يتعذّر سيرها بل تتنكب في طريقها ،والقلوب لا تُعطى مناها حتى تصل إلى مولاها ولا تصل إلى مولاها حتى تكون سليمة ، سليمةً من الشبهات والشهوات والآفات سليمةً من الشرك والحقد والحسد والغل والكبر والشُّح وحب الدنيا سليمةً من كل آفة تبعدها عن ربها ومن كل شبهةٍ تعارض خبره ، ومن كل شهوةٍ تعارض أمره ، سليمةً من كل إراده تزاحم مراده سليمةً من كل قاطع يقطعها عن ربها

عادة ما يحول الهمّ بينك وبين الدعاء خاصة إذا طال وزاد واستحكم ، فيخيل الشيطان لك أنّ الله ساخط عليك أو أنّك محروم من السّعادة أو أنّ هذا حظّك من الدّنيا ، أو أنّ دعاءك لايفيد في ذهاب همومك فيجمع عليك سوء ظنّك بربك الكريم الرحيم وزيادة همّك بتركك للدعاء.اطرد عن نفسك تلك الوساوس واستعذ بالله من عدوّك اللّدود وقف ببابه سائلا راجيا مخبتا جهّز فؤادك قبل أحرفك ، وكّله أمر الغمغمات وثق به فالله وحده يعلم كلّ حزن أرجفك ، وكلّ بلاء أوجعك ، وكلّ همّ قضّ مضجعك.